منذ عهد المتوكل العباسي غلب سيطرة العسكر الأتراك وقادتهم على أزمة الأمور في الدولة. واستأثروا بالعقارات والإقطاعات واستبدوا بسلطان الخلافة حتى صاروا يوَّلون ويعزلون الخلفاء كما يحلو لهم، بل يقتلون ويسجنون كل من لا يحقق مطامعهم من الخلفاء و الوزراء.

حاول بعض الخلفاء أن يستردوا إلى منصب الخلافة سلطانه وهيبته ويستندوا في معارضة الأتراك ومواجهتهم إلى تأييد شعبي عن طريق مهادنة المعارضين وإظهار شيئ من العدل و الإنصاف بين رعيتهم.

حاول ذلك الخليفة المنتصر بالله العباسي سنة ٢٤٧ه والمقتدي بالله العباسي سنة ٢٥٥ه ولكن الأتراك تخلصوا منهم بالعزل والسم والقتل، فما حكم الواحد منهم إلا عاماً واحداً فقط.

وعندما سدت سبل الإصلاح أمام الراغبين فيه والمتتطلعين إليه، أقبل الناس على الثورة، فكانت أن قامت عدة حركات ثورية قادها ثوار كانت أغلبيتهم من العلويين، على أخطر الثورات التي شهدها العصر العباسي كانت ثورة علي ابن محمد التي بدأت في البحرين سنة ٢٤٩ه والتي اشتهرت باسم “ثورة الزنج”.

كان قائد هذه الثورة هو علي ابن محمد ابن أحمد ابن علي ابن عيسى ابن زيد ابن علي ابن الحسين ابن علي ابن أبي طالب رضي الله عنهما.

كان شاعراً وعالماً، وكان يمارس في سامراء تعليم النحو والخط وكان واحداً من المقربين من الخليفة المنتصر بالله العباسي، ولما قتل الأتراك المنتصر بالله ومارسوا الاعتقال والنفي والقتل لحاشيته كان علي ابن محمد من بين المعتقلين.

تمردٌ من فرق الجند الشاكرية ببغداد يؤازرهم عامة الناس، دخلت بغداد في فوضى عارمة واختفت الجيوش والشرطة من الشوارع، اقتحم المتمردون السجون و أطلقوا سراح من فيها، ومنهم علي ابن محمد ليشعل ثورة قضت مضاجع العباسيين إلى أقصى مداه.

غادر علي ابن محمد بغداد إلى سامراء ومنها إلى البحرين حيث دعا إلى الثورة ضد الدولة العباسية، وبالرغم من اشتهار هذه الثورة بثورة الزنج إلا أنها لم تكن ثورة عنصرية للزنج وحدهم ولم تقف أهدافها عند تحرير العبيد أو تحسين ظروف عملهم.

على امتداد السنوات السبع الأولى من عمر الثورة الممتدة من سنة ٢٤٩ إلى ٢٥٦ للهجرة كان قادتها ومحيطها جمهوراً عربياً خالصاً، فهي بدأت في مدينة هجر أهم مدن البحرين ثم في الأحساء بين أحياء بني تميم وبني سعد وفي هذا المحيط العربي قامت هذه الثورة وسلطتها،وحدثت الحروب بينها وبين جيوش الدولة العباسية.

ويصف الطبري سلطة علي ابن محمد في هذا المحيط العربي، فيقول :((لقد أحله أهل البحرين من أنفسهم محل النبي، حتى جُبي له الخراج هناك، ونفذ حكمه بينهم وقاتلوا أسباب السلطان بسببه)).

في موقعة الروم في البحرين أحرز العباسيون انتصاراً مؤثراً على الثورة فانسحب علي ابن محمد إلى البصرة ونزل هناك بين العرب فدعاهم للثورة فتبعوه وكان عدد منهم من قادة ثورته وجيشه.

في سنة ٢٥٤ه يبث عامل العباسيين على البصرة العيون طلباً لعلي ابن محمد بعد أن علم بمقامه فيها فخرح منها إلى بغداد.

في شهر رمضان من سنة ٢٥٥ه حدثت في البصرة فتنة بين طائفتين من جندها البلالية والسعدية و أسفرت هذه الفتنة إلى اضطراب عام و إطلاق سراح من في السجون ومنهم أهل علي ابن محمد وأتباعه، فعاد إلى البصرة ليواصل ثورته من جديد، وهناك بدأ أول انعطاف للثورة نحو الزنج بعد قرابة سبعة سنين من اندلاعها.

كانت البصرة أهم مدن جنوب العراق وكان الجنوب مشحوناً بالرقيق والعمال الفقراء الذين يعملون في مجاري المياه ومصابها.

شرع علي ابن محمد يدرس أحوال هؤلاء البائسين من عبيد و فقراء والسعي لضمهم إلى ثورته كي يحررهم ويحارب بهم الطبقة الأرستقراطية التي تضطدهم بمعونة الدولة العباسية على رأسهم الخليفة الحاكم باسم الدين في العاصمة سامراء آنذاك.

فكان أول زنجي ينضم إليه هو ريحان ابن صالح الذي أصبح من قادة الحرب و الثورة.

أخذ علي ابن محمد ينتقل مع قادته في أماكن عمل الرقيق والفراتيين فقراء العراق، يدعوهم إلى ترك أماكنهم وعدم الخضوع لسادتهم و الانضمام لمعسكره في نواحي البصرة واعداً إياهم بحياة أفضل، فاستجابت له مجاميع غفيرة.

في أول موقعة له في البصرة خرج إلى دجلة وعبر جنده سباحة فأدركوا الجيوش العباسية المرابطة قرب قرية حول النهر ووضعوا فيهم السيف فقتل منهم خلقٌ كثير وأُتي منهم بأسري فوبخهم علي ابن محمد لطاعتهم السلطان و خلّا سبيلهم.

جهز العباسيون حملة ضد علي ابن محمد وتقدموا نحوه واشتبك الجيشان، وحمل جيش علي ابن محمد عليهم وثار من خلف جيش البصرة الكمناء وانهزم الناس فذهبوا كل مذهب واتبعهم السودان إلى النهر فقتلوهم عن بكرة أبيهم.

في اليوم التالي تقدمت جيوش الزنج نحو البصرة، وكان الهلع قد تألف قلوب البصريين واستسلمت لعلي ابن محمد.

انضمت الوحدات النزنجية من جيش الدولة العباسية في كل موطن من المواطن التي التقى فيها الجيشان حتى سميت لذلك بثورة الزنج.

في سنة ٢٥٦ه المهتدي العباسي يعتقل القائد التركي بايك باك في سامراء، فثار عليه جند بايك باك وأحاطوا بقصر الخلافة، ولتخويفهم أمر المهتدي بضرب عنق بايك باك ورمي رأسه من سور القصر إليهم.

جُنَّ جنون العسكر فاندفعوا يقاتلون حراس قصر الخلافة ودارت معارك حامية سقط فيها ٤٠٠٠ قتيل ثم وقعت الهزيمة على أصحاب المهتدي ففر عبر أسطح المنازل وأطلق من في السجون لينصروه فما كان منهم إلا الهرب وقبيل الصباح أُدرك المهتدي وهلك بين يدي الجند بصقاً وصفعاً على وجهه وركلاً في مناطق حيائه، وأوكلوا أحمد ابن المتوكل خليفة سامراء الجديد ولقب بالمعتمد.

في الثاني عشر من صفر سنة ٢٥٧ه عقد المعتمد لأخيه الواثق على حروب الزنج ودعمه بالجند والأموال.

في عشرات المعارك التي وقعت بين جيوش الزنج و جيوش العباسيين كان النصر غالباً للزنج فيها وتأسست كثمرة لهذه الانتصارات دولة للثورة أقامت فيها سلطتها وطبقت فيها أهدافها.

لقد بلغت دولة الثورة هذه درجة من القوة فاقت كل خطر عرفته الدولة العباسية من أخطار و ثورات، واجتمع لها من الناس ما لاينتهي العد والحصو إليه، وكان عمال الدولة الثائرة يجمعون الخراج لعلي ابن محمد على عادة السلطان.

أقام الثوار لدولتهم عاصمة سموها “المختارة” وأسسوا عدة مدن أخرى ومناطق كثيرة.

ألقت الخلافة العباسية بكل ثقلها في المعركة ضد الثورة وكرست كل امكاناتها للجيش والقتال وبعد أن عهد الخليفة العباسي المعتمد بالقيادة الميدانية إلى أخيه الموفق، تحول الموفق إلى خليفة حقيقي، الأمر الذي أوغر صدر الخليفة في سامراء.

في رمضان من سنة ٢٦٧ه انتدب علي ابن محمد رجال وأبطال عسكره وشرع بهجوم مفاجئ على قوات الموفق التي تعسكر شرق دجلة ولكن زنجياً كان قد تسلل طمعاً بالأمان، أعلم الموفق قبل لحظات من بدء الهجوم فاشتبك الجيشان على يقظة ودارت معركة حامية، انهزم فيها الزنج و أخذهم السيف من كل جانب فسقط منهم ٥٠٠٠ قتيل و٥٠٠٠ أخرى في الأسر.

في شوال انتخب علي ابن محمد ٢٠٠ قائد و٥٠٠٠ مقاتل من أهل الجلد والبأس تحت إمرة القائد المهلبي فانطلق بهم جدلة ليلاً وكمنوا ببساتين النخيل خلف الجيش العباسي، ليهجموا عليه صباح اليوم التالي، ولكن زنجياً أخر من جماعة علي ابن محمد يطلب الأمان من الموفق ويخبره بالكمين، فأمر الموفق ابنه العباس بالنهوض على ظهور الخيل إلى الناحية التي يكمن فيها جيش الزنج، ذهب الكمين كله قتلاً وغرقاً لأن الموفق قتل حتى من أسرهم وقذف رؤوس القتلى في محانيق السفن لقصر صاحب الزنج لترويعهم.

في سنة ٢٦٨ه باشرت الجيوش العباسية بقيادة الموفق بهجوم واسع على المختارة عاصمة الزنج وهي مدينة محصنة غاية التحصين، وفرق قواده على جهاتها وجعل مع كل طائفة نقابين لهدم السور، ووصلوا إلى السور وثلموه في مواضع كثيرة، ودخل أصحاب الموفق من جميع الثغرات وتوغلوا داخل المدينة، فخرج الكمناء من خلف الجيوش العباسية وحدثت واحدة من أعنف المعارك، قتل فيها معظم الجيش العباسي الذي دخل مدينة المختارة، فيما لاذ بالفرار من استطاع الهرب من سيوف الزنج.

في الخامس عشر من جمادى الأول من سنة ٢٦٩ه فرَّ الخليفة العباسي المعتمد يريد الالتحاق بمصر في جماعة من القواد وحين صار إلى الموصل قبض عليه عاملها إسحاق ابن كنداج، وكان الموفق قد كتب إليه قبل ذلك محتملاً فرار أخيه الخليفة فعدله إسحاق عن ذلك.

تقدمت الجيوش العباسية بقيادة الموفق نفسه لهدم سور المختارة مرة أخرى وقاتل الفريقان أشد قتال رأه الناس، فبينما هم في ذلك وصل سهم إلى الموفق فأصابه في صدره، فاضطرب عسكر العباسيين وخافوا وهرب كثيرٌ من الجند، أبى الموفق الانسحاب واحتجب عن الناس.

في يوم الأحد العشرين من شعبان سنة ٢٦٩ه بكَّر الموفق بعد أن برأ من إصابته للقتال وأمر حمزة نصير صاحب الزوارق بضرب قنطرة علي ابن محمد في نهر أبي خصيب، دخلت زوارق العباسيين النهر في أول المد فحملها الماء وألصقها بالقنطرة، فاجتمع الزنج على طرفي النهر ورموا الزوارق بكل المعدات رمياً كثيفاً فأهلكوا من فهيا ومن بينهم بالطبع صاحب زوارق الموفق حمزة نصير.

كانت مصر قد استقلت عن حكم العباسيين تحت حكم أحمد ابن طولون وكان لها جيش قوي في الشام يقوده المملوك لؤلؤ غلام ابن طولون، كاتب لؤلؤ الموفق العباسي وطلب شروطاً لنفسه من أجل انضمام جيشه للقتال ضد الزنج.

انضم الجيش الطولاني العظيم إلى جيش العباسيين بقيادة الموفق العباسي وأمر لهم بالأرزاق على قدر مراتبهم، وشرع بمحاربة الزنج بفريق بعد فريق من جيش لؤلؤ ليتمرنوا على قتالهم وليقفوا على المسالك والطرق في ساحات القتال التي لم يعهدوها من قبل، ورأى الموفق من شجاعة لؤلؤ وإقدامه ما سره للغاية.

أحدث الزنج في نهر أبي الخصيب باباً ضيقاً لتحتد جرية الماء فيه، فتمتنع الزوارق من دخوله في الجزر و يتعذر خروجها منه في المد ورأى الموفق أن تقدمهم لا يتم إلا بقلع هذا التضييق، فقتل المحامين عن المضيق وأوقع فيهم موقعة عظيمة ولم يسلم منهم إلا الشريد، وأخذوا من أسلحتهم مالم يستطيعوا حمله وتقدمت سفن وزوارق الجيش العباسي وفرقت العساكر من جميع جهاته وأمر الجند بالجد في القتال.

في يوم الاثنين السابع والعشرين من محرم سنة ٢٧٠ه بكَّرت الجيوش العباسية زحفها جميعاً ومن جميع الجهات نحو المختارة عاصمة الزنج، والتقى الفريقان في معركة حامية سقط فيها ألاف القتلى من الجانبين، استبسل الزنج فيها غاية الاستبسال وتمكنوا من صد الجيش العباسي وارجاعه إلى مواقعه.

أمر الموفق العباسي بتحريك العلم الأسود مرة أخرى والنفخ في البوق، فزحف الناس في البر والماء يتلوا بعضهم بعضاً، التقى الفريقان واشتد القتال وقتل من الفريقين خلق كثير، ولحَّ الجيش العباسي إلحاحاً شديداً في التقدم، وانهزم الزنج و تبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون وقتل منهم مالا يحصى عدداً وكذلك غرقاً.

وحوا الموفق المدينة كلها فنهبها أصحابه وعبروا بغنائمهم إليه.

مضى الثائر قائد ثورة الزنج في أصحابه منسحباً مع ابنه وسليمان ابن جامع والقواد الأخرين إلى الخط الثاني الذي كان معداً كمصد في حال تقدم الجيش العباسي وبعد ثلاثة أيام من الاستراحة أمر الموفق جنده بالقتال مرة أخرى وطاف عليهم هو بنفسه يعرف كل قائد بموقعه.

التقى الجيشان في المعركة الفاصلة وبعد قتال ظالم انهزم الزنج وتفرقوا لا يلوي بعضهم على بعض وتبعهم أصحاب الموفق يقتلون ويأسرون، وانتهى الموفق إلى آخر نهر أبي الخصيب وكانت جيوشه قد أعملت سيوفها في المختارة عاصمة الزنج، وحدثت مقتلة عظيمة فيها حتى غطت الجثث وجه الأرض.

في مساء ذلك اليوم تتقاطر أعضاء جسد ذلك الثائر العلوي قائد ثورة الزنج إلى حيث مكان الموفق العباسي.

كل عضو بيد واحد من الجنود بعد أن أعملوا سيوفهم في جسده.

نعتته السلطة العباسية بالخبيث والمارق وألصقت به كل ما هو قبيح، كما تفعل سلطات ذلك الزمان مع كل مناوء تصدى للحكم والسلطان.

صبحي بكداش
صبحي بكداش
المقالات: 3

تغمرنا السعادة برؤية تعليقاتكم .... اترك رد