إن روعة الكلام وسحر البيان ليعجزان عن التحدث عن أعظم نساء في التاريخ, كيف ولا وقد قامت علي إثرهن أمم ورجال , ونقدم بين يديك اليوم قصة إمرأة لوددت أن ينفذ حبري وأحبار الدنيا في الكلام عن روعتها وإيمانها بربها, إنها قصة أم موسى عليه السلام.
نبدأ بعون الله
نسب أم موسى : هي يوكابد بنت لاوي الملقبة “بالمتوكلة” هي والدة نبي الله موسي وهارون وزوجة عمران عليهم السلام أجمعين..
حياتها : عاشت أم موسي في أصعب الظروف فقد كان بنو إسرائيل يمرون بأهوال كثيرة, لأن فرعون راح يستعبدهم ويسومهم سوء العذاب نتيجة ما رأي بمنامه الذي ذكرناه آنفا في قصة آسيا إمرأة فرعون فعاشت حياة مليئة بالخوف والرعب مما هو حاصل , والفزع مماهو آتي ..؟
ولادة موسى عليه السلام :
في جو مشحون بالغيوم السوداء والريح العاصف , يشق ظلام الليل الدنيا فيزيدها قسوة , وفي وسط هذا يتنفس الناس أنفاس الظلم , فتقتل الصبيان وتسبي النساء , إنه فرعون مصر , فرعون زمانه, ولكل زمان فرعون , ولكن تبقي ثلة قليلة من البشر تشع نورا , يري هذا النور من بعيد كل من أنار الله بصيرته , ومن بين أضلع هذه الثلة ولد نور هو كليم الله “موسي عليه السلام“, دفعه رحم أم موسي إلي دار الإبتلاء , ولكن سبق ولادته رحمة ربه مدبر الكون , فتأتي الأحداث لتكشف علم السوابق ..
(تأملات في قصة أم موسى)
قال الله تعالى (وأوحينا إلي أم موسي أن أرضعيه) هي كفالة الله لعباده الصالحين يدبر لهم ويمكر لهم ويحفظهم ويرزقهم ويتولي أمرهم , قصة أم موسى وقلب أم موسي , ولكل إنسان قلب ولكل قلب قصة وكل قصة مسطرة منذ الأزل في أم الكتاب , إنها كفالة الله لأم موسي ولولدها (وأوحينا إلي أم موسى أن أرضعيه)رسالة موجهة إلي قلب أم موسي لتجمع شتات أمرها ولتستجمع قواها العقلية والنفسية والبدنية لما هي مقدمة عليه , إن الأمر جد صعب , إبتلاء غاية في الشدة, كيف لا وقد قال لها ربها _جل وعلا_ (فإذا خفت عليه فألقيه في اليم) إنه قانون يخالف العقل ويعاكس الفطرة , قانون مختلف وغريب علي العقول , ولكنه لم يفهم الرسالة مثل أم موسي يحمل كل معاني الأمن والأمان والسلامةوالرعاية..
(فألقيه في اليم) لأنه من المعلوم أن اليم مظنة الهلاك فكيف لأم أن تلقي ولدها ورضيعها في البحر , كيف لها أن ترميه إلي الموت وبيدها؟؟ في بحر شديد الظلمة تصارعه الأمواج من كل جانب , وهذا أمر ( فألقيه في اليم ) والفاء للتعقيب والسرعة , أي :ألقيه الآن , فلا تملك أم موسي سوي تنفيذ كلام ربها وهي المؤمنة الواثقة بموعود ربها لها بأن يحفظه , كما سيأتي بنا المقام.
قال تعالي (ولا تخافي ولا تحزني)فالولد قطعة من الأم والأب , هو بقيتها بل هو امتداد لها , هو بمثابة نفسها بل أغلي , لكن الآمر هو الله , وقادر علي أن يجعل ما يخيف الإنسان هو مصدر أمانه , لقد جعل الله المخاوف لموسي وهو في جوار أمه , وجعل الأمن في غيابه عنها , فالمنع من الله عين العطاء .
إقرأ أيضا في لحن الحياة
ثم قال الله تعالى ( إنا رادوه إليك) وعد من الله وهو وعد حق , فعلي أم موسي في ذلك الوقت تغييب عقلها والتفكير فقط بموعود ربها (إنا رادوه إليك)وهنا جاء مد 6 حركات في هذه الكلمة أي : سنرده إليك حتي وإن طالت المده, وطال الإشتياق والغياب , فهذا القلب قلب أم موسي سلم لأمر الله الذي يعلم السر وأخفي , يعلم قلب الأم بما يحمله من كثرة الوساوس والقلق الزائد علي الأبناء , فهي تسأل نفسها أين ستحمله الأمواج, وإلي أين ستلقيه ؟ وهل سيعيش ؟ ومن سيأخذه أن أحياه الله؟ وكيف سيكبر بعيدا عني؟ وكيف سعرفني عندما يكبر ؟ أسئلة لا تنتهي ….؟ لكن جوابها عند علام الغيوب.
ثم ثني ربنا من بعد (إنا رادوه إليك) ب( وجاعلوه من المرسلين) فأم موسي لم تكن إمرأة عادية بل هي إمرأة طمحت إلي فضل ربها بأن يجعل ابنها رأسا في الخير , ونهاية للظلم وهو ظلم فرعون مصر, فهي تحب العدل والأمان وتكره الظلم والطغيان , لذلك لم يقل الله ( إنا رادوه إليك ) وفقط , بل أخبرها سبحانه (إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين) أي:سنتكفل به وسنده أيضا بالمعجزات لأنه مرسل برسالة ربه إلي الناس وإلي طاغية زمانه (فرعون مصر) ألا وهي توحيد الله والإيمان به , ثم قال ربنا (فالتقطه آل فرعون) أي : كما يلتقط الطير الحب , التقطه آل فرعون بسولة وبكل يسر دخل أعظم أروقة الظلم والطغيان , ساقه القدر إلي فرعون مصر
نشأة موسى عليه السلام في قصر فرعون مصر :
وهذا فرعون يربي موسي وليدا في قصره , فهو كيد الله لفرعون وهو من جنس عمله , فلكم أحزن آباء وأثكل نساء , فأرسل الله إليه عدوه ليربي بين يديه كما يربي السفيه الجاهل قرينه, يسمنه ويغذيه ليتطاول عليه ويهد أركانه , فهو صراع بين الحق والباطل, وهكذا رعاية الله لأنبياءه وأوليائه .
قال الله تعالى (إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين)خاطئين في تفكيرهم ونظرتهم , خاطئين في حق ربهم وفي حق الرعية التي ولاهم الله عليهم , ومن ثم خاطئين في حق أنفسهم , إنه الظلم الأسود.
قال الله تعالى (وقالت لأخته قصيه ) كاد قلب أم موسي أن يتوقف فهي تري ابنها عائما في الصندوق بوسط اليم , فقالت لإبنتها اتبعيه ولا تجعلي أحدا يشعر بك, فراحت البنت تسترق النظر بين الحين والآخر في خفيه, إلي أن وصل التابوت إلي بيت فرعون فرأت الجواري يسرعن لإلتقاط التابوت ويدخلن به إلي قصر فرعون , فلما رأته آسيا إمرأة فرعون فرحت واستهلت برؤيته فقد كان وجهه يشع نورا وجمالا وبهاءا وحانت لحظة الرضاع.
إرضاع موسى عليه السلام:
قال الله تعالى (وحرمنا عليه المراضع من قبل ..) فقد أخذ في البكاء موسي عليه السلام لأنه جائع ولا يريد أن يرضع من أية مرضعه, فخرجوا به إلي السوق علهم يجدون من تصلح لإرضاعه , فرأته أخته بأيديهم فعرفته , فقالت لهم (هل أدلكم علي أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون) هذا هو القدر الإلهي فيزيد يقين الإنسان في انه قادر علي كل شيء , قال الله تعالي (والله غالب علي أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون).
رجوع موسى إلي حضن أمه وتحقيق موعود الله لها:
وما إن وصل موسي إلي أمه حتي أقبل علي ثديها ففرحت الجواري ورجعن بها إلي قصر فرعون ففرحت آسيا امرأة فرعون بمقدمها وهي لا تعرف أنها أمه , ثم طلبت منها أن تقيم عندها لترضعه فرفضت أم موسي عليه السلام, وقالت : إن لدي بعلا وأولادا لابد أن أرجع إليهم , فوافقت آسيا امرأة فرعون علي أن تراه بين الفينة والأخري, وهكذا أقام موسي في حضن أمه وفي بيته وتحقق موعود الله لها وتكفلت امرأة فرعون بنفقات موسي وعاش موسي وأمه في حماية فرعون وجنوده , فسبحان من بيده مقاليد الأمور , قال الله تعالى (فرددناه إلي أمه كي تقر عينها ولا تحزن ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون)