كانت المُقدمة التي عُرِفت بمقدِّمة ابن خلدون حصيلة التفكُّر والتأمّل الذي مارسهُ ابن خلدون في قلعة ابن سلامة. وقد اعتُبِرت هذه المُقدِّمة صورة حيّة للحياة الاجتماعية في مختلف البيئات التي تقلَّب بها الرجل. _وللعصر الذي انقضت فيه حياته ، وهو عصر قد حفل بالهزَّات التاريخية العنيفة في حقلي السياسة والفكر ، و عمَّه الفوضى حتى سار في طريق التقهقر ، فيما كانت أوروبا آخذة في تسلُّق معارج الرقي والحضارة.
– لقد كانت مُقدِّمة ابن خلدون محاولة نقد تاريخي ، وثورة على طريقة المؤرخين الذين يجمعون الأخبار من غير أن يُعمِلوا النظر الناقد في الروايات والخرافات. وقد كان همّ ابن خلدون أن يصل إلى قواعد ثابتة للتمييز بين الخطأ و الصواب في الأخبار. ثمّ إن في المقدِّمة ناحية مهمة من الوجهة الاجتماعية ، فهي تُعَدّ محاولة لتعليل الظاهرات الاجتماعية. فوجود المجتمعات أمر واقع ، ومن ثم لابُدّ من البحث عن نشأتها وعن الاختلافات الموجودة فيما بينها ، وطُرق معاشها.
– بحث ابن خلدون في مقدِّمته أصل العمران ونشأته ، وقد كانت غاية بحثه هذا أن يفهم كيف أن بعض المجتمعات تمكَّنت من الانتقال من الحالة البدوية التي يُعدَّها بدائية ، إلى حالة من التنظيم بعيدة عنها كل البعد. وتلك قضية ليست غريبة عن رجل عاش في بيئة تعدَّدت فيها الاجتماعات والدويلات ، وانطوت على أناس نشأوا من أصل واحد ، ونطقوا بلغة واحدة ، و دانوا بدين واحد ، وهم مع ذلك يتفاوتون في الحضارة تفاوتاً كبيراً.
– و هكذا فمُقدِّمة ابن خلدون ذات موضوع مستقل بنفسه ، وهو العمران البشري والاجتماع الإنساني ، والبحث فيما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال ، مثل التوَّحش ، والتأنُّس ، والعصبيات ، وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض ، وما ينشأ عن ذلك من الملك والدول ومراتبها. ومعنى ذلك أن موضوع العمران عند ابن خلدون شبيه بموضوع علم الاجتماع عند المُحدثين ، لأنه يبحث في الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وغيرها ، ويتكلم عن العوامل الطبيعية و النفسية المؤثِّرة فيها.
– إن كلّ من طَالَع مُقدِّمة ابن خلدون ؛ أُعجِب بترتيب موضوعاتها ، وتسلسل معانيها ، ودقة ألفاظها ، واعتماد مؤلِّفها على الحس والتجربة في تعليل مسائلها. فهو كلما ذكر ظاهرة اجتماعية ؛ حاول البحث عن أسبابها ، وأيَّد ذلك بالشواهد والأمثلة الحسيّة. فكانت طريقته طريقة استقرائية تجريبية ، تُحاوِل استخراج القوانين العامة من ملاحظة الظواهر الحسية.
– إن مُقدِّمة ابن خلدون لم تُثِر اهتمام الغربيين إلا في القرن التاسع عشر ، فلّما أدركوا قيمتها أخذوا يُترجِمونها و يدرسونها ، ويعلِّقون عليها. يقول المُستشرِق النمساوي ” هامر بورشتغال” : ” قلّما وُجِد بين المؤلَّفات ما يستحق أن يُترجَم ترجمة كامِلة مثل مُقدِّمة ابن خلدون”.
أقرا ايضا في موقع لحن الحياة
ماهي الأطعمة التي يجب تناولها أثناء الرضاعة الطبيعية
الزلابية تحتوي على ثلاث مكونات ممنوعة في علمالتغذية
• تاريخ الفلسفة العربية ج٢ ، يوحنا الفاخوري – خليل الجر ، دار الجيل ، بيروت.
• تاريخ الفلسفة العربية ، جميل صليبا ، الشركة العالمية للكتاب ، بيروت.