ثلاثية غرناطة رضوى عاشور

_في زمنٍ مضى عندما كنتُ صغيراً سألت أستاذ مادة التاريخ في المدرسة عن جدوى دراسة التاريخ وفائدته في حياتنا العمليّة، فأجابني أنّنا نتعلم التاريخ لنفتخر بأصولنا ونعتزّ بما قدّمه أجدادنا إلى البشرية، كما أنّ في التاريخ دروساً وعِبراً نتعلم منها علّنا نُصلح بهذه الدروس بؤس حاضرنا.

يومها أوميتُ له برأسي أن قد فهمت، وغالبتُ في صدري ضحكةً مجلجلة كادت أن تنفجر  مدوّيةً فأفسدُ بها درس التلاميذ وتركيزهم المصطنع، وربما يضطّر المدرّس ساعتئذٍ أن يحفظ ماء وجهه فيصرفني من الفصل عقوبةً، وليتني وقتها ضحكت ولم آبه..

لا أنكر أنّ في تاريخنا ما يُبهج من إنجازاتٍ علميّةٍ وأدبيةٍ متفرقة (طبيّةٍ ورياضيّةٍ وفلكية وموسيقيّة …الخ)، ولكنّنا كعرب لم نصنع الحضارة البشرية وحدنا، الحضارة التي نعيشها اليوم كرة ثلج تدحرجت في أصقاع الأرض كلها وأخذت من شعوب البشرية خير ماعندهم حتى وصلت إلى ما هي عليه اليوم، ولا يمكن لشعبٍ واحدٍ أن ينسب لنفسه شيئاً أفاد البشرية دون أن يكون لشعوبٍ أخرى فضلاً ومنّة عليه هي الأخرى.

وأمّا دروس التاريخ وعبره فواقع حالنا نحن العرب لا يشي بأنّ أحداً استفاد سطراً من أسفار التاريخ، فسقوط الأندلس تبعه سقوطٌ كثير، واحتلال فلسطين تبعه في بلدانٍ أخرى احتلالٌ وانحلال، وفئران المستعمرين وأزلامهم يقرضون جنبات الوطن حتى أدمته، فأيننا من عِبَر التاريخ تلك!!.

في هذه الرواية تاريخٌ أسودٌ لن تجدوه مكتوباً في كتب التاريخ المدرسيّة، كان ذلك منذ خمسة قرون وكان في الأندلس البعيدة، وحدها (رضوى عاشور) كتبته بدمٍ حارٍ يغلي كأنها ترنيمةٌ جنائزيّة على فردوسٍ مفقود، (ثلاثيّة غرناطة) روايةٌ قرأتها على مدى ثلاثة شهور وكتبتُ حولها النقاط التالية:

_تحكي الرواية الفصل الأخير من تاريخ الاندلس، عندما استسلم آخر ملوك غرناطة (عبد الله الصغير) لفريدناند وإيزابيلا في 2 يناير 1492، فكافؤوه على الاستسلام بأن أبقوا له رأسه وتركوه يفرّ مع خلاصة أسرته القريبة ومنحوه ملاليماً مخزية هي ثمن الأرض والبشر الذين خلّفهم وراءه، وعُذره في ذلك أنه ليس بأهلٍ على مغالبتهم حروباً طويلة، فتنحّى عن الكرسي وآثر السلامة.

_تعكس (رضوى عاشور) أحداث سقوط الأندلس على أسرةٍ غرناطية عريقة، ومن خلال فصول الرواية نتعرّف على ثلاثة أجيالٍ متعاقبة من هذه الأسرة هم (الأجداد والأبناء والحفدة والأسباط)، يزيد عددهم بالمجمل عن خمسة عشر شخصاً هم كلهم أبطال الرواية، ولا أكشف سرّاً إن قلتُ بأنّ (مريمة وعلي) هما الشخصيّتان اللتان ستبقيان معنا حتى صفحات الرواية الأخيرة، بعد أن يتلف أفراد الأسرة كلهم موتاً وتشريداً يقطّع نياط القلوب.

_ في هذه الحقبة الأندلسية (فترة حكم محاكم التفتيش) تسلط الكاتبة الضوء على المآسي التي عايشها النّاس آنذاك، فطمس الهوية العربية والإسلامية قانونٌ يسري على الجميع، ومن يخالف ذلك فالضرب والترويع والسجن والتجويع، ومن هذه القوانين الجائرة حظر استخدام اللغة العربية نطقاً وكتابةً أو تداول الكتب أو الصلاة وصوم رمضان، أو تسمية المواليد أسماء عربيّة أو تغسيل الميت وتكفينه، وعلى الجميع تعلّم القشتالية وحضور القدّاس في الكنائس، ولبس الزي القشتالي ودفع الضريبة للملك وهي تساوي تقريباً كلّ ما يملكون.

_ للرواية فصولٌ ثلاثة هي ( غرناطة، مريمة، الرحيل)، والواقع أنّ ثلثها الأخير أشبه ما يكون بالبكائيّة التي تدمغ القلب بالحزن والأسى المتواصل، ذكريات الأحباب الذين رحلوا أو تقطّعت بهم السبل في الفيافي والمنافي، ذكريات البيوت التي كانت تعجّ بالزوار والأصحاب، كلها ستنقلب أحزاناً مؤلمة سيتفاعل معها القارئ لا لشيء سوى أنّها قصّةٌ حقيقية لا نزال نعيش فصولاً شبيهةً في بلداننا العربية اليوم حيث قوافل النزوح الممتدّة طويلاً حتى بلاد الغرب، والمعتقلات التي تغصّ بشبابٍ وشيّابٍ ينصرف عمرهم هدراً لا لشيءٍ إلا لأنّ حاكمهم أزعجه بقاؤهم أحراراً طلقاء، هذا ما حصل في الأندلس، وهذا ما يحصل الآن وما أشبه اليوم بالبارحة.

_الكاتبة لا تكفّ عن الوصف، هذه طبيعتها وهذا أسلوبها، وربّما هذا واحدٌ ممّا نحبّه في كتبها، هي تصف كل شيء في الحانوت والبيوت حتى شباك العنكبوت، فإذا دخل أبطال الرواية الفندق ذكرت مرتاديه وجواريه، ورجاله ومخاصيه، ووصفت كلّ مافيه، وأتت على إيوانه وميزابه، وزوّاره وأصحابه، فإذا وصفت بيتاً لم يفلت منها شيء، فتصف لنا سطل البئر والدرباس، والباب والمتراس، والجلخ والرفّاس، وحتى لباس القادم من فاس، تصفه من العمامة حتى المداس، فإذا ذهب إلى الكنيسة أو الديوان لا يفوتها ذِكر الأجراس في القدّاس، أوصرير القلم على القرطاس.

_حركة الأحداث بطيئة جداً، فالكاتبة منحت لنفسها وقتاً عميماً للكتابة والاسترسال، وهي تمعن في الجمل الإنشائيّة الطويلة، كما أسهبت في تقديم الشخصيات وجعلت للأمكنة ذكرياتٍ لا تقلّ عن أبطال الرواية، هذا كله لا يدفع القارئ للملل ولا طلب السرعة في جريان الأحداث لأنّ اللغة الرصينة التي استخدمتها الكاتبة ستشدّ محبي اللغة وستسعدهم ببيانها الساحر، وسيرغمهم بديع الكلام ذاك على القراءة المتروّية والاستزادة من النص الجميل، أمّا التشويق في الرواية فنراه باهتاً، ليس ضعفاً من الكاتبة فهي علمٌ في رأس الأدب العربي، لكنّ معرفتنا السابقة بزوال مملكة الاندلس يجعلنا لا نتحمّس كثيراً لمحاولات المقاومة واسترجاع الأرض وكأنّنا على دراية مُسبقة بالنهاية التي ستؤول إليها أحداث الرواية.

_صدرت الطبعة الأولى من الرواية عن دار الشروق في 502 صفحة من القطع المتوسط منذ خمسة وعشرين عاماً ثم توالت طبعاتها عاماً بعد عام، وهي حتى الآن من أكثر الكتب مبيعاً وأكثرها طلباً وإثارةً للنقاش، وهي تستحق كلّ كلام الإطراء الذي قيل فيها، وبهذا العمل الفريد سطّرت (رضوى عاشور) اسمها في سِجِلّ الأدباء الخالدين.

تغمرنا السعادة برؤية تعليقاتكم .... اترك رد