يمكنُ أن نختصرَ قصة اكتشاف الوارفارين بالجملة الشهيرة ” مصائبٌ قومٍ عندَ قومٍ فوائدُ”، ذلك الدواء الذي انتقلَ من كونه سُمًّا قاتلا إلى كونه دواءً منقذًا.
يُعرَف الوارفارين عند بعض مرضى القلب، خصوصًا الذين أجروا عمليات كالقثطرة، حيث غالبًا ما يَصِفه الطبيب لهم بعد ذلك التدخل الجراحي. فما هي قصَّته؟! وما علاقة المَثَلِ أعلاه؟ تابعوا معنا، بسم الله نبدأ:
بدأتِ القِصّة في عشرينيات القرن الماضي عندما لاحظ الأطباء البيطريّون في كندا موتَ الأغنام والأبقار بسبب نزيفٍ داخليٍّ مجهول السبب رُغم عدم وجود أمراضٍ مسبقة لديهم،
كان الموت شائعًا لدى المواشي التي ترعى على محاصيلِ أعلافٍ متعفّنةٍ محتويةٍ على نبتة البرسيم الحلو أو ما يعرف بالحَندقُوق (Melilotus alba and Melilotus officinalis) وأصبح هذا النزيف يعرف بمرض “البرسيم الحلو”.
إقرأ أيضا في موقع لحن الحياة
معنى اسم رند او رندة وصفات حاملي اسم رند
فوائد شرب الماء الساخن على معدة فارغة
فوائد البقدونس الملقب بملك الخضروات
قصص مرعبة عن جامعات أمريكية مسكونة بلأشباح!!
لاحظ جراحان بيطريّان أن مرضَ البرسيم الحلو يمكن عكسه عن طريق إزالةِ العلف المتعفِّن أو عن طريق نقل دمٍ جديدٍ إلى الحيوان النازف. وعُرِفَ المرض بعد ذلك في المجتمع الطبي باسم “عيب البروثرومبين في البلازما أو (اضطراب تخثّر الدم المكتسب).”
بعد ذلك قام مجموعةٌ من الباحثين الكيميائيين بتحليل نبتة البرسيم الحلو بعد تعفُّنها لاستخراج المركب النشط المسؤول عن إحداث النزيف.
وبحلول عام 1940، وبعد 6 سنواتٍ من العمل، أثبت الباحثون أن مادةً طبيعيّةً تسمى الكومارين تتأكسدُ في البرسيم الحلو المتعفِّن لإنتاج (4-هيدروكسي كومارين)، والذي اقترحَ الباحثون جعله مُبيدًا للقوارض، لكنَّ المركب كان مفعوله بطيئًا جدًّا على أن يكون سُمًّا قاتلا للفئران، فاستمرَّ الباحثون في تعديلاتهم على التركيبة الكيميائيّة للكومارين حتى وصلوا إلى التركيبِ الأمثل المعروف ب(الوارفارين)
وبهذا تحوَّل المرضُ إلى مبيدٍ للقوارض.
لكن كيف تحوَّل مبيد القوارضِ هذا إلى علاجٍ للبشر؟؟
في عام 1951، حاول أحد مجنّدي الجيش الأمريكي الانتحار بجرعاتٍ متعددةٍ من الوارفارين في مبيداتِ القوارض في المستشفى، لكنَّه تعافى بالكامل بعد علاجه بفيتامين k.
ونتيجةً لمحاولة الانتحار هذه بدأت الدراساتُ حول استخدام الوارفارين كمضادِّ تخثُّر علاجيّ وبذلك انتقل الوارفارين إلى الاستخدام السريري تحت الاسم التجاري ” كومادين “وتمَّت الموافقة عليه للاستخدامِ في البشر في عام 1954 وكان من أوائل من أنقذهم الوارفارين هو الرئيس الأمريكيّ دوايت آيزنهاور الذي وُصف له الدواءُ بعد إصابته باحتشاءِ عضلة القلب في عام 1955.
وبهذا تحوَّل سُمُّ الفئران إلى علاجٍ منقذ.
ونختُم بقوله صلّى اللهُ عليهِ وسلّم: (ما أنْزَلَ اللَّهُ داءً إلَّا أنْزَلَ له شِفاءً) [صحيح البخاري، 5678] وفي روايةِ تتمّة (علِمهُ من علِمه، وجَهِله من جَهِله).
إن الطبيعةَ التي أوجدها الله لم تُخلق عبثاَ، وما كان في بداية الأمر ضارًّا (ومرضًا نازفًا) فلا بُدَّ أن نثقَ بأن له حكمةً ما، وكلّ ما علينا فعله هو البحث والتفكُّر في هذا الخلق لنصلَ إلى الإيمانِ العميق بقوله تعالى على لسانِ المؤمنين (ربَّنا ما خلقتَ هذا باطلا سُبحانَك).